12 Nov
12Nov

مقدمة

 تعيش المؤسسات اليوم مرحلة مفصلية تتجاوز فيها الجودة معناها التقليدي المرتبط بالامتثال إلى المعايير أو ضبط الإجراءات، لتصبح فكراً مؤسسياً يقود الإبداع، ويصنع الأثر، ويعزز الثقة المجتمعية.
في عالم يتسارع فيه التغيير وتتصاعد فيه توقعات المستفيدين، يصبح التفكير المختلف في الجودة ضرورة وجودية، لا خياراً إدارياً. فالجودة لم تعد هدفاً نهائياً، بل عملية تعلم مستمرة تمكّن المؤسسات من التكيّف، والتحسين، والابتكار في تقديم القيمة. وفي هذا الإطار، يستعرض هذا المقال خمسة محاور رئيسية تمثل جوهر التحول في مفاهيم الجودة الحديثة المستلهمة من شعار الأسبوع العالمي للجودة 2025 «فكر بطريقة مختلفة». وتشمل هذه المحاور: 

إعادة تعريف التفكير المؤسسي، الجودة كقيمة استراتيجية، الإنسان محور التحول، الثقة والمساءلة الناضجة، والأثر المجتمعي. 


إعادة تعريف التفكير المؤسسي في الجودة

 الجودة في مفهومها الحديث لم تعد مجرد التزامٍ بالإجراءات أو المعايير التنظيمية، بل أصبحت رحلة فكرية نحو الإبداع في تقديم القيمة. فالتفكير المختلف في الجودة يعني الانتقال من بيئة تُدار باللوائح والرقابة إلى بيئةٍ تُدار بالأفكار والابتكار. يبدأ هذا التحول من تغيير الذهنية المؤسسية؛ فبدل أن تُقاس الجودة بعدد الوثائق أو نسب الامتثال، تُقاس اليوم بمدى قدرتها على خلق أثر حقيقي في تجربة المستفيدين ونتائج المؤسسة. وهنا يصبح موظف الجودة ليس مراقبًا على الأداء، بل محفزاً على التفكير التحسيني، ومشاركًا في صنع الحلول، وموجهاً للابتكار العملي.
إن المؤسسات التي تتبنى هذا الفهم الجديد تتحول من "منفذة للعمليات" إلى "صانعة للقيمة"، ومن "منظمة متقيدة" إلى "منظمة متعلمة". 


الجودة كقيمة استراتيجية

 لكي تُحدث الجودة أثراً حقيقياً، لا بد أن تُدمج في الاستراتيجية المؤسسية لا أن تبقى في الهياكل التشغيلية. فالجودة الاستراتيجية هي التي تُترجم الأهداف العليا للمؤسسة إلى خطط تنفيذية ومبادرات تحسين تقود إلى نتائج ملموسة. هذا المفهوم يجعل الجودة شريكاً في التخطيط والحوكمة واتخاذ القرار، وليس مجرد جهة داعمة. فهي الأداة التي تضمن التوافق بين الرؤية والواقع، وتحوّل الاستراتيجية من وثيقة نظرية إلى واقعٍ قابل للقياس والتطوير. وحين تتبنى المؤسسات هذا النهج، تصبح الجودة وسيلة لتقليل الهدر وتحقيق الكفاءة وتعزيز الثقة بين القادة والفرق التنفيذية. كما تتعمق فكرة “التحسين المستمر” لتصبح مبدأً يومياً في التخطيط لا مجرد مراجعة سنوية. إن جودة التفكير الاستراتيجي تمهد الطريق لجودة الأداء والنتائج، وتخلق دائرة تعلم مستمرة تربط بين الرؤية والأثر. 


الإنسان محور التحول في الجودة

 تبقى القيادة البشرية الواعية هي العامل الأهم في تحويل الجودة من نظام إلى ثقافة. فمهما بلغت الأنظمة من دقة، تظل الجودة مرهونة بوعي الأفراد وإيمانهم بقيمتها.
التحول في مفهوم الجودة يبدأ عندما يُنظر إلى الموظفين لا كمنفذين، بل كشركاء في رحلة التحسين. تمكين الأفراد يعني منحهم المساحة للتفكير، الصلاحية لاتخاذ القرار، والثقة في قدرتهم على الإبداع. وعندما تصبح الجودة مسؤولية الجميع، تتحول المؤسسة إلى بيئة تعلّم حقيقية يشارك فيها الجميع في توليد الأفكار وحل المشكلات. وهنا تتغير طبيعة القيادة أيضًا، فالقائد الملهِم في بيئة الجودة الحديثة لا يوجّه فقط، بل يسمع، ويدعم، ويحفّز. ولعل أعظم مؤشرات نجاح ثقافة الجودة هي تلك التي تنبع من الموظفين أنفسهم؛ عندما يصبح التحسين سلوكًا يوميًا لا تعليمات صادرة من الأعلى. 


من الرقابة إلى الثقة والمساءلة الناضجة

 إن أبرز تحولٍ في الفكر المؤسسي للجودة هو الانتقال من ثقافة الرقابة والتفتيش إلى ثقافة الثقة والمساءلة الواعية. الثقة هنا لا تعني غياب الرقابة، بل تعني أن الجودة ناتجة عن قناعة ومسؤولية ذاتية، لا عن خوف من المراجعة أو العقوبة. ففي بيئات العمل الحديثة، تُبنى الجودة على الانفتاح والشفافية والإفصاح الطوعي عن الأخطاء، لأن الخطأ يُنظر إليه كفرصة للتعلم لا كمصدر للعقوبة. وهذه النقلة الفكرية تُحوّل الممارسات الداخلية إلى بيئة ناضجة تشجع الموظفين على الإبلاغ عن أوجه التحسين، وتقودهم إلى المشاركة في الحل، مما يرفع نضج المؤسسة التنظيمي ويزيد قدرتها على النمو المستدام. المساءلة في هذا السياق تصبح تشاركية وليست سلطوية، مما يجعل الثقة والإبداع عنصرين متلازمين في بيئة الجودة. 


من الأداء الداخلي إلى الأثر المؤسسي والمجتمعي

 القيمة الحقيقية للجودة لا تُقاس بما تحقق داخل جدران المؤسسة فقط، بل بما تُحدثه من أثر في حياة الناس. فالمؤسسات المتميزة اليوم هي تلك التي توازن بين كفاءة أدائها الداخلي وعمق تأثيرها الخارجي. الجودة ليست هدفاً إدارياً، بل وسيلة لصناعة أثر اقتصادي واجتماعي وإنساني. وعندما ترتقي المؤسسة بجودة خدماتها ومنتجاتها، فإنها تسهم في بناء ثقة المجتمع، وتعزيز رفاه الأفراد، ودعم التنمية المستدامة. التحول من الأداء إلى الأثر يعني الانتقال من التركيز على مؤشرات الإنتاج إلى مؤشرات الرضا والقيمة المضافة. وفي السياق السعودي، يتجلى هذا المبدأ بوضوح في مؤسساتٍ تتبنى الجودة كمسار لتحقيق رؤية المملكة 2030، حيث يصبح المستفيد محور الخدمة، والابتكار وسيلة التقدم، والاستدامة غاية الأثر. 


خاتمة

 إن شعار"فكر بطريقة مختلفة" لا يدعو إلى تغيير الأدوات فحسب، بل إلى إعادة تشكيل الوعي المؤسسي بأكمله. فالجودة ليست مهمة فريق، بل مسؤولية جماعية تصنعها العقول المؤمنة بالتحسين المستمر، والقلوب المخلصة للأثر الإنساني. إن المؤسسات التي تفكر بطريقة مختلفة في الجودة، تُبدع بطريقة مختلفة، وتحقق نتائج مختلفة، لأنها لا تسعى إلى الكمال في الورق، بل إلى الأثر في الواقع.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.