يُعد التميز المؤسسي اليوم أحد أهم المسارات التي تسعى المنظمات بمختلف أحجامها وقطاعاتها إلى تحقيقه، لما له من أثر مباشر في تعزيز القدرة التنافسية، ورفع مستوى الأداء، وضمان الاستدامة في بيئة مليئة بالتحديات والمتغيرات. لكن السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه:
كيف تبدأ المنظمة رحلتها نحو التميز؟
.إن الانطلاق في هذه الرحلة لا يتطلب مجرد شعارات أو مبادرات متفرقة، بل يحتاج إلى رؤية واضحة، والتزام قيادي، ومنهجية تطبيقية ترتكز على أفضل الممارسات العالمية وتجارب النجاح المحلية.
البداية الحقيقية لرحلة التميز تبدأ من القمة، حيث يلعب القادة دوراً محورياً في تشكيل الثقافة المؤسسية القائمة على الجودة والتحسين المستمر. فوجود قناعة راسخة لدى القيادة العليا بأن التميز ليس خياراً تكميلياً بل ضرورة استراتيجية، هو الأساس الذي يقوم عليه النجاح. ويترجم هذا الالتزام عبر صياغة رؤية ملهمة ورسالة واضحة، وربط أهداف المنظمة بالمستقبل الوطني أو القطاعي، مثل المساهمة في تحقيق رؤية السعودية 2030 أو أي استراتيجيات تنموية أخرى.
لا يمكن للمنظمة أن تنطلق بفعالية ما لم تتعرف أولاً على واقعها الحالي. لذا، فإن الخطوة التالية تتمثل في إجراء تقييم شامل لمستوى النضج المؤسسي، سواءً من خلال نماذج التميز العالمية مثل EFQM، أو من خلال النماذج الوطنية كـ جائزة الملك عبدالعزيز للجودة. هذا التقييم يمكّن المنظمة من تحديد نقاط القوة التي يمكن البناء عليها، واكتشاف فرص التحسين التي تحتاج إلى تدخل عاجل أو طويل المدى.
بناءً على نتائج التشخيص، يجب صياغة خارطة طريق واضحة للتميز، تتضمن المبادرات والمشاريع ذات الأولوية، موزعة على مراحل زمنية واقعية. خارطة الطريق ليست مجرد خطة تشغيلية، بل هي أداة استراتيجية توجه الموارد البشرية والمالية والتقنية نحو مجالات محددة تحقق أكبر أثر ممكن. ومن المهم أن تكون هذه الخارطة مرنة، تسمح بالتكيف مع المتغيرات الداخلية والخارجية.
نجاح رحلة التميز لا يعتمد فقط على القيادة والخطط، بل على المشاركة الواسعة للعاملين في جميع المستويات. نشر ثقافة التميز يعني تعزيز القيم المؤسسية التي تقوم على العمل بروح الفريق، وتمكين الموظفين من الإبداع، وتقدير جهودهم ومكافأة إنجازاتهم. كما يشمل ذلك بناء قنوات تواصل فعالة تضمن انسياب الأفكار والملاحظات، وتوليد مبادرات منبثقة من الموظفين أنفسهم.
التميز ليس حالة ثابتة بل عملية ديناميكية متواصلة. ولهذا، يجب على المنظمة تبني منهجية إدارة التغيير لضمان تقبل العاملين للتحولات الجديدة، وتقليل مقاومة التغيير، وتحويل التحسين المستمر إلى ممارسة يومية. وفي هذا السياق، يصبح الابتكار أداة جوهرية، حيث تبحث المنظمة باستمرار عن طرق جديدة لتقديم قيمة مضافة لمستفيديها.
من أبرز ركائز التميز المؤسسي وجود نظام قياس متكامل يتابع الأداء بشكل دوري عبر مؤشرات كمية ونوعية، تغطي جوانب المستفيدين، والموارد البشرية، والعمليات، والنتائج الرئيسية. لا يقتصر دور القياس على المراقبة، بل يمتد إلى التعلم المؤسسي من النجاحات والإخفاقات، واستخلاص الدروس التي تدفع نحو تحسين الأداء في المستقبل.
الهدف النهائي من رحلة التميز ليس الحصول على شهادات أو جوائز، بل إحداث أثر ملموس ومستدام يظهر في رضا المستفيدين، وتحسين الكفاءة التشغيلية، وزيادة ولاء الموظفين، وتعزيز صورة المنظمة. وعندما يتحقق هذا الأثر، يصبح التميز جزءاً من هوية المؤسسة، لا مجرد مبادرة مرحلية.
إن بدء رحلة التميز المؤسسي يتطلب شجاعة في مواجهة الواقع، ووضوحاً في تحديد الاتجاه، ومرونة في التكيف مع التحديات، ومثابرة في السعي للتحسين. هي رحلة طويلة قد تبدأ بخطوة صغيرة، لكنها تفتح آفاقاً واسعة للابتكار والريادة. فالمؤسسات التي تختار أن تسلك هذا الطريق، إنما تختار أن تكون مؤثرة في حاضرها، وقادرة على صناعة مستقبلها.